"إنّ الثورة تتجمّد وإنّ الثوّار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمّدة داخلي" - إرنستو تشي غيفارا.
لن يبدو الإستشهاد بهذه المقولة بالذات، في مكان آخر، أكثر ملاءمة منه هنا. فهذه المقولة أيضا، كالثورة الفلسطينية المعاصرة، "تحتفل" بمناسبة ولادتها في العام ذاته 1965.
إذن 44 عاما مضت والمقولة هي نفسها، كما كانت وكما ستبقى، ولكن السؤال هنا هل هذا أيضا ما حصل للثورة؟
خير من يجيبنا عن هذا السؤال بصدق وصراحة وشفافية، وبعيدا عن متاهات وتعقيدات السياسة والعمل العسكري، هم الناس، هم قلب ونبض هذه الثورة، ضميرها وخيرُ مقيّم لها.
ابو محمد (64 عاما) من مخيم برج البراجنة يعتبر أن الثورة كانت حاجة ملحّة للشعب الفلسطيني حينها، للبدء في إثبات الهوية الفلسطينية في ظل قيام دولة "إسرائيل" والتعامل معنا على أساس مجموعة من الناس بحاجة الى الغذاء.... وعجز تطبيق القانون الدولي لتصحيح الوضع الذي نتج عن نكبتنا. وعليه تمت الاستجابة الى هذه الحاجة وقُدم الكثير الكثير في سبيلها، ولكن خلال المسيرة وبسبب شراسة العدو ضاعت بوصلة القيادة وأصبحت الشعارات حقل تجارب لهذا الفصيل أو ذاك... كل هذه الشعارات لم تصل بنا الى أكثر من اعتراف العالم بنا كشعب يمكن أن يتعايش مع شعب آخر على أرض كان يملكها كلها بالأساس. وتساءل إن كان هذا ما نطمح اليه كشعب أو كقيادة؟
يعرب فخر حسين حرز الله من مخيّم مار إلياس (60 عاما) عن ندمه بالإنضمام إلى صفوف الثورة منذ ريعان شبابه – شارك حرز الله في عمليات فدائية عديدة داخل فلسطين إلا أن مسؤوليّة العائلة والظروف المعيشية التي واجهها دفعاه في اتجاه العمل على سيارة للأجرة منذ بداية 1985 حتى هذا اليوم.
"لم تقدّم الثورة لي شيئا، لو عملت في شيء آخر لكان عندي الآن بيتا ملكي وليس كما الآن بالإيجار". ويأسف ان ما حقّقته الثورة يقتصر على تمكُنها من جمع الشتات الفلسطيني وصنع كيان اسمه فلسطين من جهة، ومن جهة أخرى عجزت الثورة عن تقديم أي حلول للشعب الفلسطيني أو تحقيقها للإنتصار الكامل. أمّا الذي أثر على الثورة بطريقة سلبية هو الإنقسامات التي شهدتها على الصعيد السياسي الحزبي وحتى الشعبي، منذ الإنطلاقة كان هناك إجماعا ووحدة ولكن اليوم.... "أصلا ما عاد في خط سير رئيسي لنعرف بأي اتجاه ماشيين عليه".
في المقابل لا يعرب أبو صلاح (44 عاما) –مخيّم شاتيلا – عن ندمه بالانضمام الى صفوف الثورة على الرغم من تجربته، إذ يرى ان الثورة الفلسطينية أثبتت وجود الشعب الفلسطيني وحافظت على كرامته، كما ربطت المكان الجغرافي والعمل المسلّح المقاوم، مضيفا أنّ الشهيد الرمز أبو عمّار حقق أشياء كثيرة للشعب الفلسطيني ولكن الأطراف العربية والإقليمية، والإنقسامات الداخلية، هي التي خذلت الثورة وأضرّت بالقضية الفلسطينية.
وأشار إلى أن الثورة مقصّرة تماما بحق الفلسطينيين وخصوصا في لبنان وفي تحسين الأوضاع الإنسانية والإجتماعية والإقتصادية سيّما أن المساعدات المالية الوفيرة والتي تأتي باسم الشعب الفلسطيني لا توزّع بالشكل المطلوب على المحتاجين وأسر الشهداء واليتامى، "في ناس عاشت على ضهر ناس". يستطرد سجنت لمدة أربع سنوات بسبب إنضمامي للثورة في السجون السورية وعندما خرجت لم يسأل عنّي أحد، وقتها قررت الإنفصال نهائيا عن الثورة. ولم يخفِ تشاؤمه من اللآتي فالثورة بأمس الحاجة إلى عقيدة جديدة عزيزا للوحدة الفلسطينية التي لم تعد خطا أحمرا بالمرة.
المقاومة مؤنث
لا يمكن إلا أن نستحضر تجارب المرأة الاستثناء؛ المرأة الفلسطينيّة الزوجة، الأم، الإبنة، الأخت والشريكة في النضال.
"كيف قهوتك حبيبتي؟ شكرا ما بشرب.
طيّب عصير لكان. وإلي أنا قهوة مرّة.
شايفي: قهوتي مُرّة، وحياتي مُرّة، وانا من عائلة مُرّة ويلعن هالعيشة المُرّة."
هكذا وبإيجاز تختصر إم علي مُرّة من مخيّم شاتيلا مسيرة حياتها ال64، هي زوجة شهيد، وبنت شهيد وأخت شهيد ...وابنها الوحيد في روسيا، كانت تطبخ للفدائيين لكي تربي ابنها، ولكن "شو عطونا؟ ما عطونا شي". وتكمل بإنفعال: أنا مع الثورة، مع الأشراف في الأرض المحتلّة فقط. "مش مع هدول الحرمية، ما خايفة من حدا، عايشين عيشة الكلاب بالمخيّمات، كل المصاري يللي بتيجي باسم المخيمات بتروح ...كلّو واسطات". تعود إلى وتيرة أقل انفعالا "انا لست بحاجة الى مال من الثورة، ما يهمني هو غيري في المخيمات من الأرامل وزوجات الشهداء واللاتي لا تكفيهن المساعدات المالية لتغطية المصاريف المعيشية والتعليمية لابناءهن ابناء الثورة... "في ناس ميتة من الجوع"، وتتساءل أين الثورة ومال الثورة من هؤلاء؟
تشير إم علي أيضا إلى غياب النظام والإنضباط في المخيمات إذ ان سلاح الثورة الذي استخدمناه للدفاع عن كرامتنا اصبح لقتل بعضنا البعض. "الهوية الفلسطينية ما عاد بدّي ياها، بدنا نعيش بكرامة....أنا كبيرة بالعمر بدّيش أركض بنصاص الليالى اوأنصاب بالغلط هيك....الناس بدها ترتاح". يتدخّل جار إم علي، أبو محمد (64عاما) ويضيف الثورة حافظت على كرامتنا "كنّا قبل نوكل قتل، إجت الثورة بطلنا نوكل قتل"، مبديا ارتياحه وتشجيعه للمسار الذي تمشي فيه الثورة الآن، وتأمّله بأن يجدي العمل السياسي نفعا خصوصا فيما يتعلّق بحق العودة.
"بحطها فوق راسي"
إم ماهر (52 عاما) من مخيم مار إلياس تقول أن الثورة أدخلت الفلسطينيين الى الداخل وبالتالي تمكنت من إنشاء سلطة لها داخل فلسطين، أحب منظمة التحرير الفلسطينية "وبحطها فوق راسي". والثورة هي التي ساعدتنا (رغم محدودية المساعدة) بعد استشهاد أبي.
وتعتبر ان كل ما حصل (على صعيد فلسطين ولبنان) بعد استشهاد ابو عمار ما كان ليحدث لو كان على قيد الحياة.
لا تعتبر إم محمود (53 عاما) اللبنانية ونظرا لإقامتها في مخيم مار الياس، نفسها إلا فلسطينية وبإمتياز، فبالنسبة لها "الفلسطينيّون مقدّسون" كانوا لا يترددوا في الدفاع عن الدول العربية والدفاع عن انفسهم "مين وقف منّن جنبنا؟" (نون الجماعة الفلسطينيّة).
واستنكرت إبقاء الأوضاع الإنسانية والمعيشية داخل المخيّمات بطريقة مذرية متسائلة أين الثورة من الجيّاع والمرضى والمشحّرين؟ تصمت وتضيف: "شو بدي قلك تقبريني؟" "أهم شي الوحدة والاتحاد هلّق لتحقيق النصر".
الثورة شباب
وترى مهى من مخيم برج البراجنة (23عاما) ان الثورة هي صفحة مشرفة من التاريخ الفلسطيني ويجب الإعتزاز بها ولكن الأهم هو ان لا نبقى أسرى لأمجاد التاريخ بل البناء والحكم على الحاضر من خلال الواقع المعاش ومن خلال موازين القوى لدى أطراف الصراع.
"بالنسبة إلى من يوم ما وعيت ومن أيام (قبل الثورة وخلال الثورة وبعد الثورة) ستّي كانت لاجئة، وأهلي لاجئين وانا واخوتي لاجئين. يا خوفي ولادي بكرا يطلعوا لاجئين كمان".
بالنسبة لفادي (30 عاما) من مخيّم مار إلياس، فالثورة هي مصدر فخر واعتزاز، إلا أنّ شعوره هذا تبدّل الى الخزي والعار لما آلت إليه الأمور بسبب الإقتتال بين الأشقاء... رغم ذلك لا ينكر فادي تمكن الثورة من تحقيق ثلاثة أهداف منذ انطلاقتها؛ إذ جعلت الشعب الفلسطيني ولأوّل مرّة صاحب القرار المستقل، ونقلت المقاومة أو الكفاح المسلّح من الخارج الى الداخل، وجعلت القضيّة الفلسطينية هي القضية المركزية في العالم وليس للعالم العربي فحسب.
ويعتبر أنّ ضخ الأموال بطريقة غير مدروسة على الفلسطينيّين، وتحوّل بوصلات بعض القوى نحو دول خارجية، وأخيرا الإقتتال الداخلي، من أخطاء الثورة الفادحة والتي اساءت الى مسارها الصحيح. و يرى أن التوازن ما بين خط المقاومة المسلّحة من جهة والعمل السياسي والدبلوماسي من جهة ثانية هو المسار الأنسب لإكمال الثورة وتحقيق أهدافها.
"ثورة آخر الشهر"
بالنسبة للشاب (19عاما) الملقب بأبو فوزي مخيم شاتيلا، الثورة الفلسطينية تمثل له أننا كشعب فلسطيني أثبتنا أننا أصحاب قضية أمام العالم. وشدد على أننا اليوم في أمس الحاجة الى الوحدة في الصف الفلسطيني الفلسطيني و"مداواة جراح بعضنا، قاعدين منقتل ببعض و’اسرائيل’ عم تتفرّج". وتمنى ان ياتي قائد مثل أبو عمّار إذ بعده فلت زمام الأمور، مضيفا أن الذين استشهدوا في سبيل القضية الفلسطينية وخلال الثورة ما استشهدوا لنصل الى المرحلة التي نحن فيها الآن، وهناك أشخاص كثيرون شاركوا في الثورة وضحّوا من أجلها لا يسأل عنهم احد اليوم. يقاطعه صديقه "هون ما في ثورة" ينفخ دخان سيجارته، "هون في ثورة آخر الشهر... ماتت الثورة ماتت"، ويعلّق هشام معربا عن مخاوفه من الآت وعن تصرف القيادات الامسؤول فيما يتعلق بالفوضى في المخيمات، والسكان الأجانب، وتطول لائحة الشكوى التي اجمعوا عليها بدون مقاطعة والإكتفاء بهز رؤوسهم تأييدا.
تيجي محلّي؟
أكرم الذي يقيم في قرية بيتا في مدينة نابلس، يرى أنّ الثورة الفلسطينية نجحت في إثبات وجودنا للعالم كشعب له قضيّة يناضل من أجلها "نقلتنا الثورة من حالة الإستغاثة بباقي الشعوب إلى حالة الكفاح المسلح"، يضيف أنا شخصيا مع فتح وأعتبر ان فتح هي أساس الثورة، وعلى الرغم من بعض "التخبيصات" إلا أن الثورة كانت ومازالت تحاول الوصول إلى حل فيما يتعلّق بحق العودة واللاجئين، "الثورة بعمرها ما حطّت اللاجئين على جنب".
ويرى أن الإتجاه السياسي هو الأنسب في هذا الوقت لأن "إسرائيل" تطوّرت عسكريا واقتصاديا وفكريا و"إحنا مش قاعدين بنتقدّم إشي واحد"، فأي عمل مسلح او عسكري نقوم به يكلّفنا خسارة إضافيّة نحن بغنى عنها.
هذه المرّة هو يبادر بسؤالي؛ بتعرفي يا ندّوش لو بتيجي تعملي استبيان هون في فلسطين عن هاي الأمور خاصة عند الشباب...
أقاطعه وأجيب: أنا بس آجي على فلسطين بس.
حابّة تيجي؟ يا الله شو حابب أطلع منّها، تيجي محلّي؟ يبرّر أن الثورة لم تغيّر شيء حيال الحواجز، الوقت الذي يتطلبه للوصول الى جامعته في السيارة يقارب النصف ساعة ولكن بسبب الحواجز تصبح النصف الساعة ثلاث. "كل يوم بوصل بالليل تعبان، قرفان، مهموم وهم الدراسة كمان"، يضيف ملطّفا الأجواء: "مع هادا كلّو بيجي الحب شو بدّو يعمل الواحد؟".
بعد ما يزيد عن نصف قرن من النكبة والنضال والمقاومة المشرّفة ضد الإحتلال والإستعمار الصهيونيين، مسيرة طويلة تتطلب منا القوة والوعي الكافي لنقد الذات من أجل الإصلاح وبناء ذات فلسطينية قوية متماسكة مثقفة ومحصّنة بروح الأمل والمبادرة والإندفاع والإبداع خصوصا لدى العامود الفقري للثورة لدى قادة المستقبل؛ الشباب. وبناء ثورة متوازية في بعدها الفكري والعلمي والإعلامي والأدبي والفني والعسكري، والتاريخ حافل بالامثلة لثورات ناجحة يمكن استخلاص الدروس والعبر والاستفادة منها والبناء عليها.
ما هي الأهداف التي أنجزتها الثورة الفلسطينيّة؟ ما الذي حققته الثورة الفلسطينيّة للقضيّة ولشعبها؟ أين نحن من التضحيات الجسام التي قدّمها ابناء شعبنا من أجل هذه الثورة؟ أين أخفقت الثورة الفلسطينية؟ من يتحمل مسؤولية ذلك؟ هل نجحت الثورة الفلسطينيّة في مسارها الذي اتّبعته؟ من الذي يقوم بالمحاسبة والتقييم وتصحيح المسار؟
ما هي مقوّمات الثورة أصلا؟ ما هي شروط نجاحها أو فشلها؟ كيف يتم تعبئة جمهورها واحتوائهم وحمايتهم؟
هذه الأسئلة يتوجب الإجابة عنها من قبل كل من أخذ على عاتقه تحمل مسؤولية هذا الشعب ومسؤولية قيادة هذا الشعب وقيادة ثورة هذا الشعب. هذا الشعب الذي كان ومازال المحرّك الأساس للثورة، هو شعلتها ووقودها، هذا الشعب الذي قامت به ومنه ولأجله هذه الثورة. المسؤولية الحقيقية أمام قادة الشعب الفلسطيني تكمن في تقديم الإجابات عن هذه التساؤلات، وتصحيح المسار المشرّف الذي انطلقت منه الثورة الفلسطينية وتصويبه، والإعتراف بالأخطاء التي ارتكبت للعودة للطريق والمسار الصحيح، هذا إن كانت هذه القيادات فعلا جديرة بقيادة هذا الشعب وجديرة بلقب القيادة.
وقبل الإجابة عن تلك التساؤلات يتوجّب الإجابة أوّلا عن السؤال الأهم؛ هل نحن في حالة ثورة أم ماذا؟
صورة من الموقع الالكتروني لوكالة الأنباء معا |
"إنّ الثورة تتجمّد وإنّ الثوّار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمّدة داخلي" - إرنستو تشي غيفارا.
لن يبدو الإستشهاد بهذه المقولة بالذات، في مكان آخر، أكثر ملاءمة منه هنا. فهذه المقولة أيضا، كالثورة الفلسطينية المعاصرة، "تحتفل" بمناسبة ولادتها في العام ذاته 1965.
إذن 44 عاما مضت والمقولة هي نفسها، كما كانت وكما ستبقى، ولكن السؤال هنا هل هذا أيضا ما حصل للثورة؟
خير من يجيبنا عن هذا السؤال بصدق وصراحة وشفافية، وبعيدا عن متاهات وتعقيدات السياسة والعمل العسكري، هم الناس، هم قلب ونبض هذه الثورة، ضميرها وخيرُ مقيّم لها.
ابو محمد (64 عاما) من مخيم برج البراجنة يعتبر أن الثورة كانت حاجة ملحّة للشعب الفلسطيني حينها، للبدء في إثبات الهوية الفلسطينية في ظل قيام دولة "إسرائيل" والتعامل معنا على أساس مجموعة من الناس بحاجة الى الغذاء.... وعجز تطبيق القانون الدولي لتصحيح الوضع الذي نتج عن نكبتنا. وعليه تمت الاستجابة الى هذه الحاجة وقُدم الكثير الكثير في سبيلها، ولكن خلال المسيرة وبسبب شراسة العدو ضاعت بوصلة القيادة وأصبحت الشعارات حقل تجارب لهذا الفصيل أو ذاك... كل هذه الشعارات لم تصل بنا الى أكثر من اعتراف العالم بنا كشعب يمكن أن يتعايش مع شعب آخر على أرض كان يملكها كلها بالأساس. وتساءل إن كان هذا ما نطمح اليه كشعب أو كقيادة؟
يعرب فخر حسين حرز الله من مخيّم مار إلياس (60 عاما) عن ندمه بالإنضمام إلى صفوف الثورة منذ ريعان شبابه – شارك حرز الله في عمليات فدائية عديدة داخل فلسطين إلا أن مسؤوليّة العائلة والظروف المعيشية التي واجهها دفعاه في اتجاه العمل على سيارة للأجرة منذ بداية 1985 حتى هذا اليوم.
"لم تقدّم الثورة لي شيئا، لو عملت في شيء آخر لكان عندي الآن بيتا ملكي وليس كما الآن بالإيجار". ويأسف ان ما حقّقته الثورة يقتصر على تمكُنها من جمع الشتات الفلسطيني وصنع كيان اسمه فلسطين من جهة، ومن جهة أخرى عجزت الثورة عن تقديم أي حلول للشعب الفلسطيني أو تحقيقها للإنتصار الكامل. أمّا الذي أثر على الثورة بطريقة سلبية هو الإنقسامات التي شهدتها على الصعيد السياسي الحزبي وحتى الشعبي، منذ الإنطلاقة كان هناك إجماعا ووحدة ولكن اليوم.... "أصلا ما عاد في خط سير رئيسي لنعرف بأي اتجاه ماشيين عليه".
في المقابل لا يعرب أبو صلاح (44 عاما) –مخيّم شاتيلا – عن ندمه بالانضمام الى صفوف الثورة على الرغم من تجربته، إذ يرى ان الثورة الفلسطينية أثبتت وجود الشعب الفلسطيني وحافظت على كرامته، كما ربطت المكان الجغرافي والعمل المسلّح المقاوم، مضيفا أنّ الشهيد الرمز أبو عمّار حقق أشياء كثيرة للشعب الفلسطيني ولكن الأطراف العربية والإقليمية، والإنقسامات الداخلية، هي التي خذلت الثورة وأضرّت بالقضية الفلسطينية.
وأشار إلى أن الثورة مقصّرة تماما بحق الفلسطينيين وخصوصا في لبنان وفي تحسين الأوضاع الإنسانية والإجتماعية والإقتصادية سيّما أن المساعدات المالية الوفيرة والتي تأتي باسم الشعب الفلسطيني لا توزّع بالشكل المطلوب على المحتاجين وأسر الشهداء واليتامى، "في ناس عاشت على ضهر ناس". يستطرد سجنت لمدة أربع سنوات بسبب إنضمامي للثورة في السجون السورية وعندما خرجت لم يسأل عنّي أحد، وقتها قررت الإنفصال نهائيا عن الثورة. ولم يخفِ تشاؤمه من اللآتي فالثورة بأمس الحاجة إلى عقيدة جديدة عزيزا للوحدة الفلسطينية التي لم تعد خطا أحمرا بالمرة.
لوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شمّوط |
لا يمكن إلا أن نستحضر تجارب المرأة الاستثناء؛ المرأة الفلسطينيّة الزوجة، الأم، الإبنة، الأخت والشريكة في النضال.
"كيف قهوتك حبيبتي؟ شكرا ما بشرب.
طيّب عصير لكان. وإلي أنا قهوة مرّة.
شايفي: قهوتي مُرّة، وحياتي مُرّة، وانا من عائلة مُرّة ويلعن هالعيشة المُرّة."
هكذا وبإيجاز تختصر إم علي مُرّة من مخيّم شاتيلا مسيرة حياتها ال64، هي زوجة شهيد، وبنت شهيد وأخت شهيد ...وابنها الوحيد في روسيا، كانت تطبخ للفدائيين لكي تربي ابنها، ولكن "شو عطونا؟ ما عطونا شي". وتكمل بإنفعال: أنا مع الثورة، مع الأشراف في الأرض المحتلّة فقط. "مش مع هدول الحرمية، ما خايفة من حدا، عايشين عيشة الكلاب بالمخيّمات، كل المصاري يللي بتيجي باسم المخيمات بتروح ...كلّو واسطات". تعود إلى وتيرة أقل انفعالا "انا لست بحاجة الى مال من الثورة، ما يهمني هو غيري في المخيمات من الأرامل وزوجات الشهداء واللاتي لا تكفيهن المساعدات المالية لتغطية المصاريف المعيشية والتعليمية لابناءهن ابناء الثورة... "في ناس ميتة من الجوع"، وتتساءل أين الثورة ومال الثورة من هؤلاء؟
تشير إم علي أيضا إلى غياب النظام والإنضباط في المخيمات إذ ان سلاح الثورة الذي استخدمناه للدفاع عن كرامتنا اصبح لقتل بعضنا البعض. "الهوية الفلسطينية ما عاد بدّي ياها، بدنا نعيش بكرامة....أنا كبيرة بالعمر بدّيش أركض بنصاص الليالى اوأنصاب بالغلط هيك....الناس بدها ترتاح". يتدخّل جار إم علي، أبو محمد (64عاما) ويضيف الثورة حافظت على كرامتنا "كنّا قبل نوكل قتل، إجت الثورة بطلنا نوكل قتل"، مبديا ارتياحه وتشجيعه للمسار الذي تمشي فيه الثورة الآن، وتأمّله بأن يجدي العمل السياسي نفعا خصوصا فيما يتعلّق بحق العودة.
"بحطها فوق راسي"
إم ماهر (52 عاما) من مخيم مار إلياس تقول أن الثورة أدخلت الفلسطينيين الى الداخل وبالتالي تمكنت من إنشاء سلطة لها داخل فلسطين، أحب منظمة التحرير الفلسطينية "وبحطها فوق راسي". والثورة هي التي ساعدتنا (رغم محدودية المساعدة) بعد استشهاد أبي.
وتعتبر ان كل ما حصل (على صعيد فلسطين ولبنان) بعد استشهاد ابو عمار ما كان ليحدث لو كان على قيد الحياة.
لا تعتبر إم محمود (53 عاما) اللبنانية ونظرا لإقامتها في مخيم مار الياس، نفسها إلا فلسطينية وبإمتياز، فبالنسبة لها "الفلسطينيّون مقدّسون" كانوا لا يترددوا في الدفاع عن الدول العربية والدفاع عن انفسهم "مين وقف منّن جنبنا؟" (نون الجماعة الفلسطينيّة).
واستنكرت إبقاء الأوضاع الإنسانية والمعيشية داخل المخيّمات بطريقة مذرية متسائلة أين الثورة من الجيّاع والمرضى والمشحّرين؟ تصمت وتضيف: "شو بدي قلك تقبريني؟" "أهم شي الوحدة والاتحاد هلّق لتحقيق النصر".
صورة من الانترنت |
وترى مهى من مخيم برج البراجنة (23عاما) ان الثورة هي صفحة مشرفة من التاريخ الفلسطيني ويجب الإعتزاز بها ولكن الأهم هو ان لا نبقى أسرى لأمجاد التاريخ بل البناء والحكم على الحاضر من خلال الواقع المعاش ومن خلال موازين القوى لدى أطراف الصراع.
"بالنسبة إلى من يوم ما وعيت ومن أيام (قبل الثورة وخلال الثورة وبعد الثورة) ستّي كانت لاجئة، وأهلي لاجئين وانا واخوتي لاجئين. يا خوفي ولادي بكرا يطلعوا لاجئين كمان".
بالنسبة لفادي (30 عاما) من مخيّم مار إلياس، فالثورة هي مصدر فخر واعتزاز، إلا أنّ شعوره هذا تبدّل الى الخزي والعار لما آلت إليه الأمور بسبب الإقتتال بين الأشقاء... رغم ذلك لا ينكر فادي تمكن الثورة من تحقيق ثلاثة أهداف منذ انطلاقتها؛ إذ جعلت الشعب الفلسطيني ولأوّل مرّة صاحب القرار المستقل، ونقلت المقاومة أو الكفاح المسلّح من الخارج الى الداخل، وجعلت القضيّة الفلسطينية هي القضية المركزية في العالم وليس للعالم العربي فحسب.
ويعتبر أنّ ضخ الأموال بطريقة غير مدروسة على الفلسطينيّين، وتحوّل بوصلات بعض القوى نحو دول خارجية، وأخيرا الإقتتال الداخلي، من أخطاء الثورة الفادحة والتي اساءت الى مسارها الصحيح. و يرى أن التوازن ما بين خط المقاومة المسلّحة من جهة والعمل السياسي والدبلوماسي من جهة ثانية هو المسار الأنسب لإكمال الثورة وتحقيق أهدافها.
"ثورة آخر الشهر"
بالنسبة للشاب (19عاما) الملقب بأبو فوزي مخيم شاتيلا، الثورة الفلسطينية تمثل له أننا كشعب فلسطيني أثبتنا أننا أصحاب قضية أمام العالم. وشدد على أننا اليوم في أمس الحاجة الى الوحدة في الصف الفلسطيني الفلسطيني و"مداواة جراح بعضنا، قاعدين منقتل ببعض و’اسرائيل’ عم تتفرّج". وتمنى ان ياتي قائد مثل أبو عمّار إذ بعده فلت زمام الأمور، مضيفا أن الذين استشهدوا في سبيل القضية الفلسطينية وخلال الثورة ما استشهدوا لنصل الى المرحلة التي نحن فيها الآن، وهناك أشخاص كثيرون شاركوا في الثورة وضحّوا من أجلها لا يسأل عنهم احد اليوم. يقاطعه صديقه "هون ما في ثورة" ينفخ دخان سيجارته، "هون في ثورة آخر الشهر... ماتت الثورة ماتت"، ويعلّق هشام معربا عن مخاوفه من الآت وعن تصرف القيادات الامسؤول فيما يتعلق بالفوضى في المخيمات، والسكان الأجانب، وتطول لائحة الشكوى التي اجمعوا عليها بدون مقاطعة والإكتفاء بهز رؤوسهم تأييدا.
تيجي محلّي؟
أكرم الذي يقيم في قرية بيتا في مدينة نابلس، يرى أنّ الثورة الفلسطينية نجحت في إثبات وجودنا للعالم كشعب له قضيّة يناضل من أجلها "نقلتنا الثورة من حالة الإستغاثة بباقي الشعوب إلى حالة الكفاح المسلح"، يضيف أنا شخصيا مع فتح وأعتبر ان فتح هي أساس الثورة، وعلى الرغم من بعض "التخبيصات" إلا أن الثورة كانت ومازالت تحاول الوصول إلى حل فيما يتعلّق بحق العودة واللاجئين، "الثورة بعمرها ما حطّت اللاجئين على جنب".
ويرى أن الإتجاه السياسي هو الأنسب في هذا الوقت لأن "إسرائيل" تطوّرت عسكريا واقتصاديا وفكريا و"إحنا مش قاعدين بنتقدّم إشي واحد"، فأي عمل مسلح او عسكري نقوم به يكلّفنا خسارة إضافيّة نحن بغنى عنها.
هذه المرّة هو يبادر بسؤالي؛ بتعرفي يا ندّوش لو بتيجي تعملي استبيان هون في فلسطين عن هاي الأمور خاصة عند الشباب...
أقاطعه وأجيب: أنا بس آجي على فلسطين بس.
حابّة تيجي؟ يا الله شو حابب أطلع منّها، تيجي محلّي؟ يبرّر أن الثورة لم تغيّر شيء حيال الحواجز، الوقت الذي يتطلبه للوصول الى جامعته في السيارة يقارب النصف ساعة ولكن بسبب الحواجز تصبح النصف الساعة ثلاث. "كل يوم بوصل بالليل تعبان، قرفان، مهموم وهم الدراسة كمان"، يضيف ملطّفا الأجواء: "مع هادا كلّو بيجي الحب شو بدّو يعمل الواحد؟".
بعد ما يزيد عن نصف قرن من النكبة والنضال والمقاومة المشرّفة ضد الإحتلال والإستعمار الصهيونيين، مسيرة طويلة تتطلب منا القوة والوعي الكافي لنقد الذات من أجل الإصلاح وبناء ذات فلسطينية قوية متماسكة مثقفة ومحصّنة بروح الأمل والمبادرة والإندفاع والإبداع خصوصا لدى العامود الفقري للثورة لدى قادة المستقبل؛ الشباب. وبناء ثورة متوازية في بعدها الفكري والعلمي والإعلامي والأدبي والفني والعسكري، والتاريخ حافل بالامثلة لثورات ناجحة يمكن استخلاص الدروس والعبر والاستفادة منها والبناء عليها.
ما هي الأهداف التي أنجزتها الثورة الفلسطينيّة؟ ما الذي حققته الثورة الفلسطينيّة للقضيّة ولشعبها؟ أين نحن من التضحيات الجسام التي قدّمها ابناء شعبنا من أجل هذه الثورة؟ أين أخفقت الثورة الفلسطينية؟ من يتحمل مسؤولية ذلك؟ هل نجحت الثورة الفلسطينيّة في مسارها الذي اتّبعته؟ من الذي يقوم بالمحاسبة والتقييم وتصحيح المسار؟
ما هي مقوّمات الثورة أصلا؟ ما هي شروط نجاحها أو فشلها؟ كيف يتم تعبئة جمهورها واحتوائهم وحمايتهم؟
هذه الأسئلة يتوجب الإجابة عنها من قبل كل من أخذ على عاتقه تحمل مسؤولية هذا الشعب ومسؤولية قيادة هذا الشعب وقيادة ثورة هذا الشعب. هذا الشعب الذي كان ومازال المحرّك الأساس للثورة، هو شعلتها ووقودها، هذا الشعب الذي قامت به ومنه ولأجله هذه الثورة. المسؤولية الحقيقية أمام قادة الشعب الفلسطيني تكمن في تقديم الإجابات عن هذه التساؤلات، وتصحيح المسار المشرّف الذي انطلقت منه الثورة الفلسطينية وتصويبه، والإعتراف بالأخطاء التي ارتكبت للعودة للطريق والمسار الصحيح، هذا إن كانت هذه القيادات فعلا جديرة بقيادة هذا الشعب وجديرة بلقب القيادة.
وقبل الإجابة عن تلك التساؤلات يتوجّب الإجابة أوّلا عن السؤال الأهم؛ هل نحن في حالة ثورة أم ماذا؟
No comments:
Post a Comment