Wednesday 11 May 2011

ليس إلا جنديا إسرائيليا

"يا شباب قال بدكم تشلحوا الكوفيات... الجنود مش راضيين يفوتوكم إلا إذا شلتوها عن اكتافكم" تصرخ الخليلية الثلاثينية بعصبية. تمطرها الردود دفعة واحدة وبشكل عفوي "فشروا"، "لاء مش على ذوق أبوهم"، "مش رح نشلحها"، "صرنا واصلين ما تخلونا نرجع"، "يا شباب خلّونا نشيلها الفكرة إنو نفوت لجوّا نحنا مش كل يوم بفلسطين ما تعملوا قبضايات هلّق"، "شو هالظلم هاد". سرعان ما تحوّل الاختلاف على الكوفية، بقدرة قادر، الى هتاف موحّد بالحرية لفلسطين وبالزوال للاحتلال.

استنفرت هذه الجلبة جنود الاحتلال، واستنفر معهم المنظِّمون للجولة كوننا بتنا محتجزين بين معبر حديدي آلي وآخر اعتمد كنقطة تفتيش تفصل بينهما أمتار قليلة. "هدول اليهود أوسخ اشي بالخليل، وما كان اشي رح يمنعهم يطخّوا عليكم أو يرموا قنبلة غاز"، يبرّر المنظمون وهم يستعجلون أفراد المجموعة لتجاوز المعبر الحديدي الآلي الذي يُبعدنا بضع قبلات عن الحرم الابراهيمي.
زميلتي وأنا قررنا المحاولة مرة ثانية بعد عدة أيام، بمساعدة من نجيب الشاب الخليلي العشريني. أردنا تسجيل موقف حقيقي بالدخول فعليا الى الحرم هذه المرة. أزقة بيوت البلدة القديمة المؤدية للحرم دليل حي على معاناة الأهالي هناك، فالأعلام الاسرائيلية تطلّ من كل حدب وصوب. هنا منزل مؤلف من عدة طبقات استولى عليها أو على بعضها مستوطنون يهود بالقوّة. وهناك آثار لحريق أضرمه بعض المتطرفين اليهود في أحد البيوت. وهنا وهناك شباك كشباك صيد السمك معلّقة في السماء تصطاد ما يحاول هؤلاء رميه على رؤوس الخليليين.
نقترب من الحرم الابراهيمي أخيرا، نجتاز الحاجز الآلي لنصل عند نقطة التفتيش. تعبر فداء بسهولة فحجابها كان شفيعها. يأتي دوري، يسألني الجندي بعربيته المكسّرة عن ديني! أدعي عدم فهم سؤاله. يكرره بالانكليزية إن كنت مسيحية أم مسلمة. أجيبه محاولة التذاكي: "وهل يشكل ذلك فرقا؟ ماذا إن كنت ملحدة مثلا؟!". يردّ بلؤم مشيرا بيده "نعم... وقفي على جنب". أشعر أنني في ورطة "تفلسفتي يا ست يعني؟ شفتي حدا ملحد بدو يفوت على جامع!! شو كنت عم تفكري؟"، أبرّر لنفسي "بس كنت بدي أفرجيه إنو ما في فرق بين فلسطيني مسيحي وفلسطيني مسلم". أعنِّفها "طب أسكتي هلّق".

أنتظر ليأتي نجيب الذي كان يخضع لتفتيش "يدوي" أيضا، أفكر كيف بحق السماء يحاول هذا الجندي الغبي أن يدّعي مراعاة مشاعر المسلمين!! وانا أشاهد من بعيد قطعان من اليهود المستوطنين والسياح يسرحون ويمرحون في النصف الآخر الذي احتلّوه من الجامع!
أراه يتحدث مع رجل يرتدي ثياب مدنية. أتذكّرهذا الرجل جيدا، هو الأربعيني ذاته الذي كان يستعلم منّا ويترجم للجنود في الزيارة الأولى لنا. يعلو صوته فجأة مربتا على كتف الجندي "فوّتهم يا زلمه بدهم يصلوا". في الداخل، يتبع خطواتنا جنديان وكاميرات مراقبة منتشرة في أرجاء المكان الذي يكاد يكون مهجورا إلا من عدد قليل من الخليليين –ربما لأن وقت الصلاة لم يحن بعد- أسأل أحدهم وفي ذهني صورة طابور اليهود في القسم المحتل "على طول هيك ما في حدا هون؟" ينفي، مستدركا "شايفة هناك صارت مجزرة الحرم الابراهيمي، ومن وقتها الناس صاروا يخافوا ييجوا يصلّوا".

ننهي حديثنا وأتابع السير متعمّدة البقاء تحت ناظري أحد الجنديين ليبقى هو تحت ناظري علّني استكشف شيء يخبرني ممّ هؤلاء البشر مصنوعون. يقترب مني بضع خطوات كمن يحاول البوح بسر ما ويسأل بعربية متينة "من وين جايين؟"، أجيبه "والله بالأصل من عكا بس لاجئين في لبنان"، يعلّق "انا حابب أزور لبنان"، "وأنا حابة أرجع على عكا"، أردّ. يقترب أكثر "على فكرة أنا من عكا"، أعلّق "والله!! كيف؟". يقاطعنا صوت استدعائه عبر جهازه اللاسلكي، ثمّ يجيب بجدية "انا أصلي من عكا كمان وبعدني عايش هناك". أصمت مصدومة، أقتربت منه حتى كاد حضن عكاوي أصيل يفصلنا، أتفقد ملامحه وتعابيره عن قرب أبحث فيها عن شيء يصدق ما قاله بأنه فلسطيني وعكاوي الأصل مثلي! عن اي شيء يكذّب بذلته العسكرية المرصّعة بالعلم الاسرائيلي أو سلاحه المدلى عن كتفه أو استجابته للكلمات العبرية الصادرة من جهازه مرة أخرى.

يُفتح الساتر البلاستيكي، العازل شطري الحرم، له... يعبره ليتمّ مهمته بحماية قطعان المستوطنين والسياح اليهود. حينها تأكدت فقط أنه لا يمكن أن يكون فلسطينيا وأنه ليس إلا جنديا إسرائيليا آخر.

ليتها كانت عودة بلا رجعة

كادت حورية الفار تفقد الأمل بتمكنها وفرقتها "الكوفية" من تقديم لوحات تراثية راقصة على أرض الوطن. فإثر فوز فرقتها بالمرتبة الأولى في مسابقة أفضل فرقة للرقص الشعبي ضمن فعاليات القدس عاصمة الثقافة العربية، وُعِدت برحلة الى فلسطين لتقدم خلالها الفرقة عروضا من على خشبة القصر الثقافي في رام الله. إلا أن موعد الرحلة المفترضة الى فلسطين ألغي وتأجل أكثر من مرة حتى بات تصديق إمكانية تحقيقه أمرا مستحيلا، إلى حين تلقيها بعد طول صبر وانتظار نبأ يجزم بموعد السفر مطلع الشهر الحالي. إذ شفع انعقاد مؤتمر الاستثمار الدولي الذي عقد في بيت لحم، لوزارة الثقافة الفلسطينية وللجنة الوطنية للتربية والثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية "لتضربا عصفورين بحجر"! فمن جهة تفي بالوعد الذي قطع لفرقة "الكوفية" بتقديم عروض في أرض الوطن، ومن جهة ثانية تتمكن من عقد الملتقى الثقافي التربوي الثالث الذي كان من المفترض انعقاده في الأردن، في فلسطين. هكذا، تم استصدار تصاريح مستعجلة لأعضاء من فرقة "الكوفية" ولمجموعة من شباب المخيمات في لبنان وآخرين من سوريا والأردن تحت مظلة المشاركة في مؤتمر الاستثمار، تخولهم البقاء عشرة أيام في فلسطين وزيارة أي بقعة فيها.

هكذا، بدأ المشاركون بالتوافد من مختلف مخيمات لبنان الى نقطة التجمع والانطلاق من مقر السفارة الفلسطينية في بيروت مساء الاثنين 31-5-2010، حيث سادت أجواء من الترقب والإرباك واللاصبر بينهم في انتظار الإذعان بساعة الصفر لانطلاق الحافلة باتجاه فلسطين، وسط توصيات الأهل والأصدقاء لهم بإحضار "ترابات من البلاد" ودعوات لتقبيل الأرض نيابة عنهم ونقل سلاماتهم لأهلها.

تنطلق الحافلة أخيرا، لا أحد مستوعب لحقيقة الأمر بعد. "هل نحن فعلا ذاهبون الى فلسطين؟"، "بالطبع لن يسمحوا لنا بالدخول"، "سيختلقون أي حجة لمنعنا من الوصول إليها"، "لماذا يبدو هذا الحلم حقيقيا لهذه الدرجة؟"، هواجس تبادلها الشباب في الحافلة. سرعان ما تبددت مع عبور النقاط الحدودية اللبنانية والسورية. ما هي إلا ساعات وتنضم المجموعة الثانية من مخيمات سوريا الى الحافلة التي وصلت مع ساعات الشروق الأولى إلى الحدود الأردنية، حيث الانتظار كان أشبه بقصاص قاس. الارهاق والقلق سيّدا الموقف الآن، أخبار عن رفض ختم جوازات السفر، استنفار لإجراء اتصالات "رفيعة المستوى" هنا وصلوات لإتمام الأمور هناك، لم تجد نفعا بعد. جاءت الأوامر بصعود جميع الركاب الى الحافلة والعودة أدراجها الى بيروت. الحظ كان حليفا لشخصين فقط ممن يحملون جواز سفر لبناني الى جانب وثيقة سفرهما "الفلسطينية". إنها حتما سخرية القدر! تخيلوا "لبنانيّان" يحصلان على ختم يخوِّلهما المرور من الأردن باتجاه فلسطين، وفلسطينيون حرموا منه ليعودوا باتجاه لبنان. الأمر دفع بأحدهم للتضرع للسماء ومناجاتها "لمرة واحدة فقط لمرة واحدة، كن بصفّنا يا رب، كن الى جانبنا". أجواء من الخيبة والذهول تخيمان على الجميع، المساعي "رفيعة المستوى" في أوج استنفارها. ست ساعات على الحدود الأردنية مرت كالدهر. أخيرا يشفع القدر لنا. تتفتح أسارير وجوه الشبان والشابات في الحافلة، النبأ أعاد لهم الروح. بعد إتمام المعاملات، يعلو التصفيق والغناء "وين ع رام الله... وين ع رام الله.. ولفي يا مسافر وين ع رام الله".

تتابع الحافلة سيرها باتجاه فلسطين، يكتمل الوفد بانضمام المجموعة المتبقية من الفلسطينيين في الأردن. "أصبحنا نقترب من فلسطين أكثر فأكثر"، "حلم العودة أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق أخيرا".

 
ما عدت لاجئة.. بل عائدة
الآن حان تبديل الحافلة في الأردن، يهمّ الجميع بنقل أمتعتهم للحافلة الجديدة المتجهة الى جسر الملك حسين – جسر العبور الى فلسطين المحتلة والنقطة الأكثر قربا لها. الصمت والذهول يخيمان على أجواء الحافلة. فلسطين بدأت تتكشف رويدا رويدا، كفاتنة تكشف النقاب عن وجهها تدريجيا، كشمس يغسل النسيم قرصها من كومة غيم غيّبتها، ومعها بدأت دموع الفرح تغسل ملامح الإرهاق عن الوجوه. ما هي إلا دقائق تفصلنا عن فلسطيننا.

دقائق تحولت الى ساعات في انتظار استلام تصاريح مليئة بأحرف عبرية بحثت فيها عن شيء أفهمه لأجد عبارة "السلطة الوطنية الفلسطينية" متربعة أعلاه، تملكتني رغبة بالانفجار باكية، لكوني أحمل ورقة غبية يأذن فيها لي المحتل لوطني بالدخول اليه! سرعان ما أطرد الفكرة من رأسي، فلا وقت للدراما الآن، لن أسمح للاحتلال أن ينغِّص عليّ فرحة تعميدي بنسيم فلسطيني، بأشعة شمسها، بذرّات متناثرة من ترابها.

تدوم النشوة لفترة قصيرة، فالاحتلال وجهه بشع أبدا، ويأبى إلا ان يذكرك بمدى بشاعته. نصل الى "نقطة" تحت سيطرته. وللحظة، ولولا تأكدي من أن هذا العلم أمامي هو علم لدولة الاحتلال "إسرائيل"، لجزمت انني في مطار الأردن نظرا لوجود صور للملك الأردني الحالي والسابق تزيّن جدران قاعة الانتظار. هنا، والآن، احتكاكي المباشر مع المحتل، سأقدم له أوراقا تبرر سبب زيارتي الى وطني، الى أرضي! نعدِّل من كوفياتنا لتصبح أكثر بروزا، ومن ملامح وجوهنا لتظهر أكثر تحديا لجنود الاحتلال. أمرّر لهم التصريح مرغمة، أتعمد إظهار اشمئزازي للابتسامات المزيفة على وجوههم ولعبارات الترحيب المصطنعة "أخلا وسخلا" (أهلا وسهلا). يسألني أحدهم "من وين انت؟"، أنظر اليه، أجيب: "من عكا". يعيد تكرار السؤال بتعجب: "من وين؟!"، أعيد على مسامعه ببطء وبصوت أعلى "من.. عكا"، فأنا رغما عن أنفه من عكا وعائدة إليها. أتابع سيري حيث جهاز الكشف عن المعادن، كثيرون كانوا مستعدين سلفا إذ خلعوا أحذيتهم وأحزمتهم ووضعوا هواتفهم جانبا. هكذا، وبعد الانتهاء وركوب حافلة جديدة تتوجه الى أريحا، أشعر بأنني بتّ بفلسطين أخيرا حيث لافتة "فلسطين ترحب بكم" تتصدر الشارع الذي نمر به... وكأننا كنّا في رحلة ما وعدنا الى البلد.

حلم العودة اختلط مع واقع اللجوء وهذيان الرحلة، انا الآن غيري... ما عدت لاجئة .. بتّ عائدة! أنا بكل بساطة على أرض وطني فلسطين تحت سمائها، تحت نجومها وقمرها! ولطالما كنت أتصور الحوار الذي سنحظى به عند لقائنا للمرة الأولى، والتزامي الصمت في الدقائق الأولى حتى ألتقط نجوما من فضاء الكلمات اللامحدود بقدر عشقي لها. أستسلم لعجزي وصمتنا، أعانقها بشدة حدّ الاختناق، أنزف بعضا من دمعي ليروي ظمأ اشتياقنا. أسرّ لها عن وجعي... عن احتضار إنسانيتي ببعدي القسري عنها.