"أنا بحب الدول العربية … أنا بحب الاتحاد الاوروبي … أنا بحب الأمم المتحدة … أنا بحب منظمة العفو الدولية …" ترنيمة يُدوِّنها ويردّدها رجل استشهدت زوجته واطفاله في الحرب الأخيرة على غزة.
أحد المشاهد التي افترضها الفنان الفلسطيني ابن مخيم برج البراجنة فادي دباجة وأحسن تجسيدها في معرضه الفني "بيت- برعاية الدول العربية" الذي اقامه في المخيم مطلع شهر شباط والمتمثل بتصميم منزل متواضع يتألف من غرفتين ومطبخ وحمام.
الحمام وكما متعارف عليه هوالمكان الأكثر أمانا وحماية من صواريخ غبية طائشة في زمن الحرب، حيث يقبع ذلك الرجل مجاورا كرسي الحمام الأزرق -اللون الرسمي للأمم المتحدة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا- ومدوِّنا ترنيمته على ورقة ليرميها في جوف كرسي الحمام ومردّدا إيّاها لتكسر أجواء الصمت المهيمنة على المتفرجين.
وهكذا تتوالى الرسالات الرمزية من باقي غرف المنزل الذي صمّمه دباجة، فمن عُبوّة الغاز الفارغة والنبتة المُتيبِّسة والجافة الأغصان في المطبخ إلى صور أشخاص تغرقها قطرات الماء المتسرِّبة من الأنابيب في الصالون وغرفة النوم.
ومن الماء ما قتل
الماء الذي يعد مصدرا للحياة يغدو مصدرا للموت البطيء واللذيذ إن تواجد في مكان لا يجب التواجد فيه أو إن
ندر في أماكن يجب التواجد فيها. وهكذا هي برأيه المساعدات والإغاثات الممنوحة للشعب الفلسطيني من قبل العرب والغرب. "عم بيقتلونا بمساعداتهم... عم بيلهونا فيها"، واصفا هذا الدور الإيجابي بالمسرحيّة لتحسين صورتهم خلال حدث طارئ والسؤال الأهم هو أين هذا الدور الإيجابي قبل الحدث الطارئ وبعده؟
هذا الدور "الإغاثي" بدا جليّا خلال حلاب غزة -وحتى خلال ما يزيد عن النصف قرن من اغتصاب فلسطين- إذ سارعت بعض الدول العربية في تمثيل الدور الأكثر اتقانا بالنسبة لها، لتبدأ عملية التنافس بين هذه الدولة أو تلك على من يقدم مساعدات ومعونات أكثر لإغاثة الشعب الفلسطيني و "نصرة لصمود الشعب الفلسطيني البطل" و"وفاءً لتضحيات الشعب العربي الفلسطيني الشقيق"... في الوقت الذي وقفت فيه عاجزة أمام الإبادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة.
وما ينطبق على الدول العربية (الحكومات وليس الشعوب) ينطبق على غيرها من دول العالم التي لعبت دورا سلبيا خلال حرب غزة. وخصوصا تلك الجهات التي تهنى بحقوق الانسان.
الأقربون أَولى
ولكن عملا بمبدأ "الأقربون أولى" كان لا بد من وقفة لوم وعتاب على الدول العربية ومواقفها "كان التحدي الأكبر بالنسبة لي وعلى الرغم من المواقف والسياسات العربية المخزية هو أن أبقى عربياً وأن لا أدع أي شيء يسلبني عروبتي... فأنا جزء لا يتجزأ من العالم العربي".
ما قدمه دباجة لا يرمز لغزة فقط "بل كل فلسطين ال 48 وال67 وكل المراحل المُرّة والبشعة التي مررنا بها كشعب فبسطيني... والتي دائما كان للدول العربية دورا ما فيها إن سلبيّا أم إيجابيّا... إلاّ أنّنا دائما من يدفع الفاتورة".
وعليه لم يأت معرضه الفني تكريما لشهداء غزة الذين ذُبِحوا بدم بارد أمام مرأى ومسمع العالم فحسب، بل تجسيدا للواقع المُر المشترك لمعاناة اللاجئين إن في فلسطين المحتلة أو في مخيمات اللجوء المؤقتة منذ العام 1948 جرّاء الغياب القسري لأبسط حقوقهم الإنسانية التي تحفظ حقهم بالتمتع بحياة كريمة ولائقة. وجرّاء اكتفاء دول العالم ودول عربية شقيقة وغير شقيقة بدور المُتفرِّج العاجز وبالتالي الراعي والمُبارِك معظم الأحيان ودور المغيث في الأحيان القليلة المتبقية.
هؤلاء لم يعد يملكون شيئا.... ما تبقى لستر عوراتهم لم يعد حتّى تحت سيطرتهم. لسخرية القدر... بل شفاعته!
No comments:
Post a Comment