"يا شباب قال بدكم تشلحوا الكوفيات... الجنود مش راضيين يفوتوكم إلا إذا شلتوها عن اكتافكم" تصرخ الخليلية الثلاثينية بعصبية. تمطرها الردود دفعة واحدة وبشكل عفوي "فشروا"، "لاء مش على ذوق أبوهم"، "مش رح نشلحها"، "صرنا واصلين ما تخلونا نرجع"، "يا شباب خلّونا نشيلها الفكرة إنو نفوت لجوّا نحنا مش كل يوم بفلسطين ما تعملوا قبضايات هلّق"، "شو هالظلم هاد". سرعان ما تحوّل الاختلاف على الكوفية، بقدرة قادر، الى هتاف موحّد بالحرية لفلسطين وبالزوال للاحتلال.
استنفرت هذه الجلبة جنود الاحتلال، واستنفر معهم المنظِّمون للجولة كوننا بتنا محتجزين بين معبر حديدي آلي وآخر اعتمد كنقطة تفتيش تفصل بينهما أمتار قليلة. "هدول اليهود أوسخ اشي بالخليل، وما كان اشي رح يمنعهم يطخّوا عليكم أو يرموا قنبلة غاز"، يبرّر المنظمون وهم يستعجلون أفراد المجموعة لتجاوز المعبر الحديدي الآلي الذي يُبعدنا بضع قبلات عن الحرم الابراهيمي.
زميلتي وأنا قررنا المحاولة مرة ثانية بعد عدة أيام، بمساعدة من نجيب الشاب الخليلي العشريني. أردنا تسجيل موقف حقيقي بالدخول فعليا الى الحرم هذه المرة. أزقة بيوت البلدة القديمة المؤدية للحرم دليل حي على معاناة الأهالي هناك، فالأعلام الاسرائيلية تطلّ من كل حدب وصوب. هنا منزل مؤلف من عدة طبقات استولى عليها أو على بعضها مستوطنون يهود بالقوّة. وهناك آثار لحريق أضرمه بعض المتطرفين اليهود في أحد البيوت. وهنا وهناك شباك كشباك صيد السمك معلّقة في السماء تصطاد ما يحاول هؤلاء رميه على رؤوس الخليليين.
نقترب من الحرم الابراهيمي أخيرا، نجتاز الحاجز الآلي لنصل عند نقطة التفتيش. تعبر فداء بسهولة فحجابها كان شفيعها. يأتي دوري، يسألني الجندي بعربيته المكسّرة عن ديني! أدعي عدم فهم سؤاله. يكرره بالانكليزية إن كنت مسيحية أم مسلمة. أجيبه محاولة التذاكي: "وهل يشكل ذلك فرقا؟ ماذا إن كنت ملحدة مثلا؟!". يردّ بلؤم مشيرا بيده "نعم... وقفي على جنب". أشعر أنني في ورطة "تفلسفتي يا ست يعني؟ شفتي حدا ملحد بدو يفوت على جامع!! شو كنت عم تفكري؟"، أبرّر لنفسي "بس كنت بدي أفرجيه إنو ما في فرق بين فلسطيني مسيحي وفلسطيني مسلم". أعنِّفها "طب أسكتي هلّق".
أنتظر ليأتي نجيب الذي كان يخضع لتفتيش "يدوي" أيضا، أفكر كيف بحق السماء يحاول هذا الجندي الغبي أن يدّعي مراعاة مشاعر المسلمين!! وانا أشاهد من بعيد قطعان من اليهود المستوطنين والسياح يسرحون ويمرحون في النصف الآخر الذي احتلّوه من الجامع!
أراه يتحدث مع رجل يرتدي ثياب مدنية. أتذكّرهذا الرجل جيدا، هو الأربعيني ذاته الذي كان يستعلم منّا ويترجم للجنود في الزيارة الأولى لنا. يعلو صوته فجأة مربتا على كتف الجندي "فوّتهم يا زلمه بدهم يصلوا". في الداخل، يتبع خطواتنا جنديان وكاميرات مراقبة منتشرة في أرجاء المكان الذي يكاد يكون مهجورا إلا من عدد قليل من الخليليين –ربما لأن وقت الصلاة لم يحن بعد- أسأل أحدهم وفي ذهني صورة طابور اليهود في القسم المحتل "على طول هيك ما في حدا هون؟" ينفي، مستدركا "شايفة هناك صارت مجزرة الحرم الابراهيمي، ومن وقتها الناس صاروا يخافوا ييجوا يصلّوا".
ننهي حديثنا وأتابع السير متعمّدة البقاء تحت ناظري أحد الجنديين ليبقى هو تحت ناظري علّني استكشف شيء يخبرني ممّ هؤلاء البشر مصنوعون. يقترب مني بضع خطوات كمن يحاول البوح بسر ما ويسأل بعربية متينة "من وين جايين؟"، أجيبه "والله بالأصل من عكا بس لاجئين في لبنان"، يعلّق "انا حابب أزور لبنان"، "وأنا حابة أرجع على عكا"، أردّ. يقترب أكثر "على فكرة أنا من عكا"، أعلّق "والله!! كيف؟". يقاطعنا صوت استدعائه عبر جهازه اللاسلكي، ثمّ يجيب بجدية "انا أصلي من عكا كمان وبعدني عايش هناك". أصمت مصدومة، أقتربت منه حتى كاد حضن عكاوي أصيل يفصلنا، أتفقد ملامحه وتعابيره عن قرب أبحث فيها عن شيء يصدق ما قاله بأنه فلسطيني وعكاوي الأصل مثلي! عن اي شيء يكذّب بذلته العسكرية المرصّعة بالعلم الاسرائيلي أو سلاحه المدلى عن كتفه أو استجابته للكلمات العبرية الصادرة من جهازه مرة أخرى.
يُفتح الساتر البلاستيكي، العازل شطري الحرم، له... يعبره ليتمّ مهمته بحماية قطعان المستوطنين والسياح اليهود. حينها تأكدت فقط أنه لا يمكن أن يكون فلسطينيا وأنه ليس إلا جنديا إسرائيليا آخر.